تواجه الاستخبارات الأميركية صعوبة في معرفة نوايا بعض الحكام، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي بدأ حياته المهنية ضابطاً في جهاز الاستخبارات السوفيتي "كي جي بي"، يشكل "تحدياً خاصاً" في ما يتعلق بمعرفة دوافعه، بحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".
وأشارت الصحيفة الأميركية في تقرير، إلى أنه في ذروة الجدل بشأن مزاعم التدخل الروسى في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) تمتلك "سلاحاً سرياً، يتمثل في عميل لديه بعض القدرة على الوصول إلى الدوائر الداخلية لبوتين".
العميل المذكور تمكّن بحسب الصحيفة من "إطلاع واشنطن على الطريقة التي يفكر بها المُخطط التكتيكي البارع (بوتين) في خطوته التالية"، لكن ذلك كان قبل إخراجه من روسيا في عام 2017، تاركاً الولايات المتحدة عمياء إلى حد كبير، ولفترة من الوقت، عن تفكير بوتين.
حالياً، وبعد 5 سنوات من "إعادة بناء الوصول الاستخباراتي الأميركي ببطء إلى أعلى الرتب في الكرملين"، تواجه الاستخبارات الأميركية "اختباراً حاسماً، يتمثل في فك شيفرة ما إذا كان بوتين سيستخدم قواته التي حشدها قرب الحدود لغزو أوكرانيا، أم سيستغلها فقط كورقة ضغط في محاولات التوصل إلى تسوية دبلوماسية".
في هذا الإطار، أشار مسؤولون أميركيون وحلفاء لواشنطن، خلال مقابلات أجرتها معهم الصحيفة ولم تذكر أسماءهم، إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا "صارتا تمتلكان مرة أخرى نوافذ مُشرعة على تفكير بوتين"، لا سيما بعد التوصل إلى "استنتاجات استخباراتية عن طريق عمليات اعتراض إلكترونية".
وتعززت استنتاجات أخرى، بحسب المسؤولين، من خلال المحادثات التي أجراها معه الرئيس الأميركي، جو بايدن بصورة دورية، التي وصفها مسؤولون بأنها "كانت مفيدة في فهم الرؤية العالمية لبوتين، وطبيعة تعاملاته"، لا سيما وأن المفاوضين الأميركيين تركوا الرئيس الروسي "يستمر في الحديث، على غرار ما يفعله المفاوضون على الرهائن".
أحد المسؤولين الأميركيين رجح أن "حسابات بوتين ستتغير بعدما يدرس التكاليف المتغيرة للغزو، ويقيم ما يمكن أن يحصل عليه من المفاوضات".
وأشار العديد من المسؤولين إلى أن "بوتين يمتلك تاريخاً حافلاً من الانتظار حتى آخر لحظة ممكنة لاتخاذ قراراته"، وأنه "يعكف باستمرار على إعادة تقييم خياراته".
واعتبرت الصحيفة، أن "إخفاء المسؤولين الأميركيين الطريقة التي عرفوا بها كيف يفكر الرئيس الروسي، وحرصهم على التكتم على مصادرهم الحالية"، ليس أمراً مستغرباً، مبررة ذلك بأن بوتين "يتجنب عادة استخدام الأجهزة الإلكترونية، ولا يسمح بتدوين ملاحظات، ولا يخبر مساعديه سوى بأقل القليل، وثمة حد لقدر المعلومات التي يمكن أن تتوصل إليها أي وكالة استخبارات بشأن نواياه وتفكيره".
ونقلت "نيويورك تايمز" عن مسؤول أميركي رفيع المستوى التقى نظراءه الروس في محاولة لنزع فتيل الأزمة الراهنة، قوله، مؤخراً، إن الوفد الأميركي خرج بانطباع مفاده أن "ممثلي بوتين كانوا يتخذون موقفاً متشدداً لأنهم لم يكونوا على علم بما يريد رئيسهم عمله".
في محاولة للإجابة على سؤال حاسم، هو "كيف يقيم بوتين احتمالات نجاحه؟"، قال مسؤولون أميركيون وبريطانيون التقتهم الصحيفة، إن أحد العناصر الأساسية في تحليلاتهم هو "الاستنتاج المشترك بأن شيئاً ما في تقييم بوتين للمكانة النسبية التي تحظى بها روسيا في العالم قد تغير".
وأضاف المسؤولون أنه "بعد الإنفاق بسخاء على جيشه، يعتقد بوتين أن روسيا الآن في أقوى وضعية تسمح لها بالضغط على أوكرانيا، ومن ورائها بقية أوروبا، منذ انفراط عقد الاتحاد السوفيتي في بداية العقد الأخير من القرن الماضي. كما أن احتياطته المالية ضاعفت بدرجة كبيرة قدرة موسكو على الصمود أمام العقوبات".
وفي الآونة الأخيرة، استفاد بوتين كثيراً من ارتفاع أسعار الغاز والنفط، واكتشف أنه كلما زادت تهديداته بالحرب، زاد ارتفاع هذه الأسعار.
ويتمتع بوتين أيضا "بميزة الوقت، إذ أنه لن يواجه الناخبين على مدى عامين ونصف، ما قد يسمح له بالتعافي من أي انتقادات محلية قد يثيرها الصراع العقابي المتمثل في العقوبات التي قد تترتب على الغزو الوسي لأوكرانيا"، بحسب الصحيفة.
وبينما يحظى هذا التحليل باتفاق على نطاق واسع داخل الدوائر الاستخباراتية، حذر مسؤولون استخباراتيون سابقون من أن "هؤلاء الذين يحاولون التنبؤ بالخطوات التالية لزعيم مثل بوتين يحتاجون إلى المضي قدماً بتواضع وتؤدة يتناسبان مع حجم ما لا يعرفونه".
وقال جون سيفر، ضابط "سي آي إيه" السابق الذي خدم في موسكو، للصحيفة: "المحللون يفهمون الطريقة التي يفكر بها بوتين، ومدى شعوره بالغبن والغضب تجاه الغرب والولايات المتحدة. ألا يعني هذا أننا نعرف ما سيفعله، أو متى سيفعله؟ لا، لأن معرفة ذلك تتطلب ببساطة أن تدخل في رأسه".
"نيويورك تايمز" رجحت أن بوتين "يتعامل مع المعلومات كسلاح، ويحتفظ لنفسه بآرائه، ويحجب تفاصيل مخططاته عن مساعديه المقربين".
وعندما زار ويليام بيرنز، مدير "سي آي إيه"، موسكو لتحذيرها من الإقدام على غزو أوكرانيا، عرض بعض التفاصيل بشأن ما تعرفه الولايات المتحدة عن التخطيط العسكري الروسي، و"بدا أن هذا الكشف فاجأ بعض المسؤولين الروس، وكأنهم لم يكونوا مطلعين على مخططات رئيسهم"، بحسب ما نقلته الصحيفة عن مسؤول أميركي مطلع على هذا اللقاء.
في هذا السياق، قالت بيث سانر، المسؤولة الاستخباراتية رفيعة المستوى السابقة التي كانت تقدم إحاطات منتظمة إلى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب: "أود أن أقول إن بوتين ليس مشاركاً جيداً، فهو لم يجتز صف رياض الأطفال في هذا المجال".
وأضافت للصحيفة: "لقد عمل (بوتين) كجاسوس، لذا فقد تدرب على ألا يشارك معلوماته، وإنما فقط على أن يحصل عليها ويستغلها".
وفي ختام تقريرها، قالت الصحيفة إن الوعي بحقيقة الأوضاع ربما يكون صعباً في لحظة يزعم فيها الروس أنهم يقومون بالتهدئة فيما تتواصل التدريبات العسكرية على قدم وساق، لا سيما مع تعطل الوظائف الأساسية لتعقب التحركات الروسية في أوكرانيا"، لافتة إلى أن "سي آي إيه"، أغلقت، الثلاثاء، بصفة مؤقتة مقرها في العاصمة كييف، بعد يوم واحد من انتقال الدبلوماسيين الأميركيين إلى مدينة لفيف في الجزء الغربي من أوكرانيا.